القائمة الرئيسية

الصفحات

 بحثت أطروحة كامو في جامعة الجزائر، العلاقة بيّ الفلسفة اليونانية والمسيحية، وتحديدا العلاقة بيّ أفلوطيّ وأوغسطيّ) Camus 1992(. مع ذلك، رفضت فلسفته الدين صراحة  كأحد أسسها. لا يتخذ كامو موقفا معاديا  وصريحا تجاه المعتقد الديني، رغم أنه أظهر ذلك، قطعا، في رواياته )الغريب( و )الطاعون(- التي تدور فيها أعمال  كامو على اختيار العيش دون إله .الطريقة أخرى لفهم فلسفة كامو هي أن نعتبرها محاولة لاستكشاف المسائل والمزالق في العالم ما بعد الديني .

ظهرت كتابات كامو التي تحتوي على فكر فلسفي في كتابه )أعراس(، في الجزائر عام 1938، وبقيت أساسالعمله اللاحق .تصف هذه المقالات الغنائية متعة الوعي بالعالم، والجسد المبتهج بالطبيعة ،وانغماس الفرد فيالجسدية بصورة مطلقة .مع ذلك،  تُقدم التجارب كحل لمشكلة فلسفية، أي إيجاد معنى الحياة في مواجهةالموت. وتظهر جنبا إلى جنب، لتكشف عن نفسها وتجذرها في أول تأمل موسع له حول الأسئلة المطلقة.

في هذه المقالات ،يضع كامو موقفيّ في المعارضة. الأول، وهو ما يعتبره مخاوف مبنية على الدين .حيث يستشهد بالتحذيرات الدينية حول الزهو، والاهتمام بروح الفرد الخالدة ،إلى جانب الأمل بحياة أخروية، والتخلي عن الحاضر والانشغال بالإله. في مقابل هذا المنظور المسيحي التقليدي، يؤكد كامو على ما يعتبره حقائق بدهية: أي أن الموت مصير حتمي لنا، وأنه لا يوجد شيء غير هذه الحياة. ومن دون ذكر لها، يرسم لنا كامو نتيجته من هذه الحقائق، أي أن الروح ليست خالدة . وهنا يثني كامو،  كما في أي مكان في كتاباته الفلسفية ،على ق ـ راءه ومواجهتهم الواقع المربك بشكل مباشر دون إجفال، لكنه لا يشعر بأنه مضطر لتقديم أسباب أو أدلة .إن لم يكن في الدين، فأين تكمن الحكمة إذن؟ وإجابة كامو هي: في "اليقيّ الواعي بالموت دون أمل"، وفي عدم الهرب من حقيقة أننا سنموت جميعا .بالنسبة لكامو" لا توجد سعادة إنسانية خارقة ولا أبدية خارج منحنى الأيام...وليس باستطاعتي أن أرى أي مغزى في سعادة الملائكة) "N, 90(. لا يوجد شيء سوى هذا العالم، هذه الحياة، والحاضر المباشر.

يطلق على كامو أحيانا، رغم خطأ التسمية، مسمى "وثني "لرفضه المسيحية لأنها مبنية على أمل بحياة بعد هذه الحياة .الأمل هو الخطأ الذي يرغب كامو بتجنبه .حيث يحوي عمله) أعراس( استحضارا للبديل، في رف ض  واضح لـ "ضلالة الأمل". يعتمد كامو في هذا الخط من التفكير على نقاش نيتشه لصندوق باندورا في كتابه )إنسان مفرط في إنسانيته(: جميع الشرور البشرية، بما فيها الكوارث والأمراض قد أسدلت على العالم بواسطة زيوس، لكن الشر والأمل المتبقي، قد بقي مخفيا في الصندوق ومحفوظا. لكن ربما نتساءل، لماذا، هل الأمل شر؟ يوضح نيتشه أن البشر وصلوا إلى رؤية الأمل على أنه الخير الأعظم، بينما معرفة زيوس تتجاوز ذلك، مما يعني أنه المصدر الأكبر للمصائب. وهو في النهاية، السبب الذي يجعل البشر يتعذبون، لأنهم يلمحون في الأفق جزاء خيّرا، مطلقا )Nietzsche 1878/1996, 58(. بعد قراءة متأنية لنيتشه ،فإن الحل التقليدي لكامو هو في الواقع الم شكل: حيث أن الأمل  كارثي بالنسبة للإنسان، وذلك لأنه يقودهم إلى تقليص قيمة هذه الحياة وجعلها مجرد تحُضير لحياة بعدها.

إذا كان الأمل الديني مبني على اعتقاد خاطئ بأن الموت ،الذي هو انطفاء الروح  والجسد انطفاء بشكل مطلقوكامل، ليس حتميّ، فإن ذلك سيقودنا إلى منعطف مظلم .وأسوأ من ذلك، يعلمنا هذا الأمل أن نشيح النظرعن الحياة، نحو شيء سيأتي لاحقا، ولذا فهذا الأمل الديني يقتل جزء منا، على سبيل المثال، الموقف العقلانيالذي نحتاجه لمواجهة تقلبات الحياة .ثم ما هو المسار المناسب إذن؟ يظهر لنا الشاب كامو هنا غير متشكك ولا نسبي. بل يعتمد بحثه على الدليل الذاتي للتجربة الحسية. فهو يدافع بالتحديد عما  يتنكر له في المسيحية ،كعيش حياة مكثفة بكافة الحواس، هنا والآن في الوقت الحاضر. ويستلزم ذلك، التخلي عن كل أمل في الحياة الأخروية، وبالطبع نبذ التفكير بها. "لا أريد أن أؤمن بأن الموت مخرج لحياة أخرى .فبالنسبة لي، الموت باب مغلق) ".N, 76(.

ربما نعتقد أن مواجهة عدميتنا التامة ستكون أمرا مريرا، لكن هذا الأمر بالنسبة لكامو أمر إيجابي: "بيّ هذه السماء والوجوه المنصرفة نحوها ،لا يوجد شيء نعلق عليه الأسطورة، الأدب، الأخلاق، الدين- هناك فقط أحجار، ولحم، نجوم، وحقائق يمكن أن تمسها اليد) "N, 90(. هذه البصيرة تستلزم رفضا عنيدا:" فكل ما يحدث لاحقا في هذا العالم "هو من أجل "المطالبة بـ" ثراء الحاضر)"N, 103(، أي حياة مكثفة حالية وحاضرة. "الثراء" هو بالضبط ما يخدعنا الأمل به ،وذلك بأن يعلمنا أن نشيح النظر عنه نحو حياة الآخرة .فحينما نذعن لحقيقة أن "توقنا للاستمرار" سيكون مُح بطا،  ونقبل" الوعي بالموت"، عندها نستطيع الانفتاح على ثروات الحياة، التي تفوق كل شيء مادي.

يضع كامو جانبي حجته في بيان واحد:" العالم جميل، ولا يوجد خارجه أي خلاص)"N, 103(. سيستطيع الفرد أن يقدر الحياة ليس فقط في جانبها المادي، بل أيضا جانبها العاطفي والعلائقي، كما يقترح كامو، ولن يكون له ذلك إلا بقبول الموت والتخلي عن كل أمل. اتخاذ القبول والتخلي معا، يأتي على عكس الإيمان بالإله وحياة الآخرة الذي يتعذر التحقق منه،  فهما مما يمتلكه المرء ويعرفه:" إن شعور المرء بروابطه تجاه أرض ما، محبته لأشخاص معينيّ ،ومعرفة أن هناك مكانا يمكن لقلبه أن يستريح فيه، تعدّ يقينيات كث يرة لحياة المرء الواحدة)"N, 90(.

 فقط حينما نقرّ بأن نيتشه على حق، وأن الإله قد مات ولا يوجد إلا العدم بعد موتنا ،فسوف سنجرب بعد ذلك،  ونشعر، نتذوق، نلمس، نرى، ونشم مُتع أجسادنا والعالم المادي. وبالتالي، فإن الجانب الحسي والغنائي لهذه المقالات ،إلى جانب طابعها المثير للعواطف، أمر أساسي للحجة. أو لأن كامو يشجع على تجربة مادية مبهجة ومكثفة،  كمعارض لإنكار الذات في الحياة الدينية، بدلا من تطوير حجة، حيث يؤكد أن هذه التجاربهي الاستجابة الصحيحة .تهدف كتاباته إلى برهنة ما تعنيه الحياة وماهية الشعور بها عندما نتخلى عن الأملفي الحياة الآخرة، حتى نتوصل عند قراءاته "لرؤية" فكرته. ربما تؤخذ هذه المقالات على أنها تحوي أفكاراشخصية للغاية، وتأملات شاب ح ول بيئته "المتوسطية"، والذي يبدو أنه من النادر أن يملكوا نظاما .لكنهم يطرحون ماهية الفلسفة بالنسبة لكامو وكيف  تُص وّر علاقتها بالعبارة الأدبية.

يمكن أن تنقل فلسفته المبكرة، إن لم تكن تلخص ،في هذا المقطع من) أعراس في تيبازة:(

بعد لحظة، سوف أرمي بنفسي بيّ نباتات الأفسنتيّ، لاستنشق رائحتها وتدخل جسدي، كان علي  أن أعلم أن المظاهر بعكسها، وأنني أحقق الحقيقة وهي حقيقة الشمس، والتي أيضا ستكون حقيقة موتي .بمعنى ما ،هي حياتي التي أراهن عليها، حياة لها مذاق الحجر الدافئ، مليئة برموز البحر  وغناء الصراصير المرتفع. النسيم بارد والسماء زرقاء .أحب حياة الانعتاق، وأتمنى الحديث عنها بجرأة: تجعلني فخورا بإنسانيتي.  ومع ذلك يخبرني الناس باستمرار: أنه ما من شيء يستحق أن أفخر به. بلى، هناك الشمس، البحر، قلبي الذي ينضح شبابا ،ملوحة جسدي، المناظر الخلابة التي يندمج فيها المجد والحنان بالأزرق والأصفر .ولقهر ذلك أحتاج لقوتي  وطاقتي. كل شيء هنا يدعني سليما، لا أضحي بشيء من نفسي، ولا أرتدي أي قناع، أتعلم بأناة ومشقة كيفية العيش،  وهو أمر كاف لي، يوازي  كل فنونهم للعيش) .N, 69(

يخبرنا الحاضر المضيء أن بإمكاننا تقدير الحياة وتجربتها، بشرط أن نكف عن محاولة تجنب موتنا المطلق والحتمي.


تعليقات

التنقل السريع