القائمة الرئيسية

الصفحات

 

 

شُكّلت الفصول الختامية لـ )الإنسان المتمرد( بكلمات مؤكدة للخاتمة )على هذا النحو،  وهكذا ، ولهذا السبب( والتي يندر أن تتبعها نتائج لما يأتي قبل، وغالبا ما يقدم مزيدا من التأكيدات، دون أي أدلة أو تحليل. وقد رصعت هذه الفصول بجمل رئيسة مختارة بعناية للأفكار الرئيسة-  والتي يتوقع المرء أن يتبعها نص، صفحات ،وفصول لتطورها، لكن الجملة تتبع الأخرى، لينتظر جملة رئيسة مبنية بدقة  كسابقتها.

كما جرت العادة في الكتاب ،يجب على القارئ أن يكون مستعدا لاتباع وثبة مجردة للمفاهيم مثل: "التمرد ،""الثورة"، "التاريخ"، "العدمية ،"وكلمات أخرى تقوم بمفردها دون العودة للعوامل البشرية. يصبح المضي في الكتاب موحلا أكثر، حتى إذا بلغنا النهاية يميل النص إلى عدم الاتساق .فكيف يمكن إذن أن يحكم فولي على )الإنسان المتمرد( بشكل فلسفي على أنه "أكثر كتب كامو أهمية  ؟) Foley, 55(

في هذه الصفحات يعود كامو إلى أساس مألوف، ليقارن التدين الضمني للرؤية المستقبلية الموجّهة التي تزعم فهم، وتروج لمنطق التاريخ، وتبرر العنف لتنجزه، مع "فلسفته التجريبية للحدود" المحفوفة بالمخاطر ،و"الجهل المحسوب"، والعيش في الحاضر .مع ذلك، ينبع التوتر من حقيقة أنه يعمل أكثر من ذلك .وبينما يسعى كامو لإنهاء الكتاب في خاتمة، نجده يتنازع مع أعقد مواضيعها -وهي أن اللجوء إلى العنف أمر حتمي، مستحيل. فالإنسان المتمرد يعيش في تناقض .فلا يمكن له أو لها التخلي عن إمكانية الكذب، الظلم، والعنف لكونها جزء من وضع المتمرد، وسوف تدخل بالضرورة داخل النضال ضد الاضطهاد ."لذلك ،لا يمكن له أن يزعم عدم قتل أحد أو عدم الكذب دون أن يتخلى عن تمرده، ويقبل مرة وللأبد الشر والقتل. "بعبا رة أخرى ،إن عدم التمرد يعني أنك أصبحت شريكا في الاضطهاد. إن التمرد الذي يصر عليه كامو يتبعه القتل .مع ذلك ،فالتمرد من حيث "المبدأ" هو احتجاج ضد الموت، وكذلك مصدر للتضامن الذي يربط المجتمع الإنساني. لقد قال كامو بأن الموت هو أس العبثية، وأن في جذر التمرد احتجاج ضد العبثية .وبالتالي ،لإن قتل أي إنسان حتى الظالم، يخلّ بتكافلنا، بمعنى يتعارض معكينونتنا. لذا، من المستحيل أن تعتنق التمرد وترفض في الوقتعينه العنف.

مع ذلك، هناك من يتجاهلون هذه المعضلة،  وهؤلاء هم المؤمنون بالتاريخ، ورثة هيغل وماركس، الذين تصوروا زمنا يتوقف فيه الظلم والاضطهاد، ويكون البشر فيه سعداء في النهاية. بالنسبة لكامو، هذه هي الجنة التي وعدت بها الأديان بعد الحياة الأخروية ،أما الحديث عن العيش، والتضحية بالبشر لأجل مستقبل افتراضي أفضل ،فهذا ببساطة دين آخر .علاوة على ذلك، فإن عداءه الحاد متحفظ على المثقفيّ الذين ينظرون ويبررون مثل هذه الحركات .إذ لا يستطيع كامو، بقبوله هذه المعضلة، أن يوضح  كيف يمكن للثورة الناجحة أن تبقى ملتزمة بالمبدأ التضامني المؤكد للحياة، والذي ابتدأت به الثورة. فهو بالتالي ،يقترح لنا عمليّ، سيكونان، حال تنفيذهما، علامات على التزام الثورة بالبقاء متمردة، وهذا من شأنه أن يلغي عقوبة الإعدام،  ويشجع عوضا عن ذلك على حرية التعبير.

بالإضافة لذلك، وكما يشير فولي، فإن محاولة كامو في التمعن في سؤال العنف السياسي تأتي في مجموعة صغيرة وعلى مستوى فردي .ففي كلّا من )الإنسان المتمرد( ومسرحية )كاليجولا( و )القتلة العادلون( يستحضر كامو فلسفته مباشرة على مسألة الظروف الاستثنائية، والتي يمكن على ضوءها اعتبار جريمة القتل السياسية مبررة.

1-يجب أن يكون الهدف طاغية؛ 2-يجب ألا يشمل القتل مدنييّ أبرياء .3- يجب أن يكون القاتل على مقربة من الضحية .4- ويجب، عند ذلك، ألا يكون هناك بديل سوى القتل .Foley 93(. ونظرا لأن القاتل قد انتهك النظام الأخلاقي الذي يقوم عليه المجتمع الإنساني، فيطالبه كامو هنا بأن يكون مستعدا للتضحية بحياته بالمقابل .لكن إذا قبل القتل في ظروف استثنائية، فإن كامو يستبعد القتل الجماعي، القتل غير المباشر ،قتل المدنييّ، والقتل دون حاجة لمحو الطغاة والمجرميّ .تتوجه هذه المطالب نحو الفكرة الجوهرية في )الإنسان المتمرد( وهي إنك إن تمردت فهو تأكيد واحترام للنظام الأخلاقي ويجب دعم ذلك من خلال استعداد القاتل للتضحية بنفسه.

 

5. فيلسوف الحاضر

نجد في )الإنسان المتمرد( مقالا معقدا ومتوسعا في الفلسفة، تاريخ الأفكار، ا لحركات الأدبية، الفلسفة السياسية ،وحتى الجمالية، إذ عمل كامو على توسيع أفكاره التي أكدّها في )أعراس( وطورت في )أسطورة سيزيف(: إن الحالة الإنسانية محبطة بطبيعتها، لكننا نخون أنفسنا ونلتمس الكارثة من خلال السعي إلى حلول دينية لحدودها .

"يواجه المتمرد، بعناد، عالما حكم عليه بالإعدام ب، وغموض مبهم للوضع الإنساني الذي يطالب بالحياة والوضوح المطلق .إن المتمرد يسعى، ولكن دون علمه، إلى فلسفة أخلاقية أو دين".(R, 101 (. إن البدائل تكمن في قبول حقيقة أننا نعيش في عالم بلا إله- أو أن نصبح ثورييّ، ملتزميّ بانتصار مجرد للعدالة في المستقبل، ورافضيّ العيش في الحاضر، تماما مثلما يفعل المؤمنون بالأديان.

بعد انتقاد الدين في )أعراس( يستكشف كامو بوعي ذاتي النقاط الأولية، المشاريع، الضعف ،الأوهام ،والإغراءات السياسية في العالم ما بعد الديني .حيث يصف كامو كيف فقد الدين التقليدي قوته، وكيف نشأت الأجيال الشابة وسط فراغ متنا م وشعور بأن كل شيء ممكن. ويدعي كذلك أن العلمانية الحديثة قد تعثرت داخل حالة ذهنية عدمية، لأنها لا تحرر نفسها من الدين" .يجب أن توجد، بعد ذلك، المملكة الوحيدة التي تعارض مملكة الفضيلة- أي مملكة العدل-ويجب أن يتحد المجتمع الإنساني من جديد بيّ أنقاض مدينة الإله المهدمة. إن إلغاء الإله وبناء الكنيسة هو الهدف الثابت والمتناقض للمتمرد ".إن حاجتنا الوحيدة إلى خلق ممالك، وبحثنا المستمر عن الخلاص هو طريق الكارثة .إنه طريق المتمرد الميتافيزيقي، الذي لا يرى "أن التمرد الإنساني بأشكاله المأساوية والممجدة، هي لا يمكن أن تكون إلا احتجاجا طويلا ضد الموت) ".R, 100(.

يمكن أن يرى عمل كامو على أنه سابقة لما بعد الحداثة، رغم أنه أكثر من ذلك بكثير .لم يحتف ما بعد الحداثيون بكامو بوصفه سلفا لهم، ولا شك في أن ذلك عائد إلى اهتمامه الميتافيزيقي المركزي بالعبثية والثورة ،وولعه بإصدار أحكام تعميمية وتحليلات مختزلة، والتي تميز )الإنسان المتمرد( عن الكتب الأقل طموحا، تلك المغرقة في الوصف مثل كتاب )جدل التنوير( لادورنو وهوركهايمر. لكن في العديد من النواحي  كان )الإنسان المتمرد( نموذج "أنساب "يصف ظهور التناقضات الجوهرية للروح الحديثة، إضافة لرؤية كامو للثورة التي تحد من الذات، وكونها تعبير غيبي عن سياسات ما بعد الماركسية وما بعد الحداثة اليسارية.

مثلما وصفه رونالد سيرجلي، فإن كامو مشروع فلسفي معقد وعميق، ذلك المشروع الذي أهمل وأسيء فهمه على حد سواء-ساعيا ليس فقط لنقد الحداثة لكنه يرجع إلى العالم القديم لوضع أسس لطرق بديلة للتفكير والحياة .وهكذا، يبقى  كامو وثيق الصلة في القرن الواحد والعشرين، لبحثه المتشكك في الحضارة الغربية منذ العصور الكلاسيكية، وتقدمها، إلى جانب العالم الحديث .يقع في قلب تحليلاته، استكشافه المتردد صورةالعيش في عالم بلا إله. "عندما يقلب عرش الإله، يدرك المتمرد بأنه مسؤول الآن عن إقامة العدل، النظام ،وال وحدة التي سعى لها عبثا داخل وضعه، وبهذه الطريقة يبرر سقوط الإله. ثم يبدأ الجهد اليائس لخلق هيمنة الإنسان، على حساب الجريمة والقتل إذا تطلب الأمر". لكن كبح المرء نفسه عن هذا الجهد، هو شعور بالحرمان من العدالة، النظام، الوحدة. يدرك كامو أن الأمل والدافع الثوري هما اتجاهان أساسيان للروح الغربية ما بعد الكلاسيكية، التي تنبع من عالم الثقافة، التفكير، الشعور بأكمله.

يؤدي ذلك إلى أحد أكثر الجوانب أهمية وتعقيدا لفكر كامو: وهي تصميمه على انتقاد المواقف التي يجدها طبيعية وحتمية. إن إمكانية الانتحار تطارد البشر، وكذلك حقيقة أننا نبحث عن نظام مستحيل، وبقاء متعذر. لم يهاجم كامو الكتاب الوجودييّ بشكل مباشر، لكنه حدّ نفسه بشكل كبير بوصف عدم قدرتهم للبقاء متسقيّ مع رؤيتهم الأولى. وبالمثل ،ي وضح في )الإنسان المتمرد( أن الحاجة الميتافيزيقية التي تؤدي إلى إرهاب الشيوعية ومعسكرات العمل، هي أمر عالمي بشكل واضح: فهو يصفها ويصف عواقبها حتى نتمكن من مقاومتها بأنفسنا وكذلك الآخرين .رغم انعكاس معاداته للشيوعية، إلا أن تعاطفا ضمنيا يوحد كامو مع أولئك الثورييّ الذين يعارضهم، لأنه يعترف بحرية بأنه يشاركهم نقطة الانطلاق عينها ،التوقعات، الضغوط ،الإغراءات، والمزالق .وعلى الرغم من أن كامو قد لجأ إلى الحجة السياسية في كثير من الأحيان، بلهجة تفوق أخلاقي، إلا أنه أوضح عبر شكوكه أن أولئك الذين لا يتفقون معه ليسوا إلا رفقاء يستسلمون لنفس الدافع الأساسي للهروب من العبثية التي نواجها جميعا.

هذا الإحساس واضح في روايته البليغة والقصيرة )السقوط(، التي كان لها شخصية وحيدة لرجل يدعى كليمنس ،وقد عرف على أنه كلا الرجليّ، شخصية كامو وشخصية سا رتر .لقد كان كل هؤلاء. من الواضح أن كليمنس كان شري را، مذنبا لوقوفه أمام شابة تنتحر. يسعى كامو في داخله، إلى وصف وإدانة جيله ،بما فيهم أعداؤه ونفسه. كانت حياة كليمنس مليئة بأعمال جيدة، لكنه منافق ويعرف ذلك .لقد امتلأ حديث  كليمنس الذاتي بتبرير ذاتي، وكذلك اعترافه كشخص مزقه ذنبه ولكنه غير قادر على الاعتراف به. جالسا في حانة في أمستردام ،هابطا إلى جحيمه الشخصي، داعيا القراء للانضمام له. في روايته لقصة كليمنس، سعى كامو إلى التعاطف وكذلك الوصف، إلى جانب الفهم والإدانة. إن كليمنس وحش ،لكنه أيضا مجرد إنسان آخر .)Aronson

 .)2004, 192-200

فازكامو بجائزة نوبل عام 1957، بعد نشر رواية )السقوط(. إن القصة تحفة أدبية تبرهن على قدرة فردية وسط  كتاباته الفلسفية .إن الحياة ليست واحدة،  وأمر بسيط، بل سلسلة من المعضلات والضغوط. إن أكثر سمات الحياة التي تبدو بسيطة هي في الواقع معقدة وغامضة، يقترح كامو بأن نتجنب حلها .نحن بحاجة إلى مواجهة حقيقة أننا لا نستطيع تطهير أنفسنا من الدوافع التي تهدد بتخريب حياتنا. وإن كان لفلسفة كامو رسالة وحيدة، ستكون  كالتالي: يجب علينا أن نتعلم التسامح، ونتقبل الإحباط والتناقض الذي لا يمكن للإنسان الهرب منه.

تعليقات

التنقل السريع